ألف النص من مقطعين أخذا من قصيدتين مشهورتين للشاعر: إحداهما بائية، والأخرى ميمية، ويجمعهما أنهما ينبئان عن تجربة عظيمة في الحياة العقلية للشاعر وعصره، وهي الحكمة، ففي المقطع الأول ألقى الشاعر نظرة على قضية من قضايا العلاقات الاجتماعية وهي الصداقة حيث قال: إنك لن تجد صديقاً خالياً من بعض الهنات، فخير لك أن تقبل صديقاً على مافيه من عيوب، من أن تعيش وحيداً، فهذه هي طبيعة البشر يخطئون مرة، ويصيبون أخرى، فعليك بالاعتدال في العتاب، فإن كثرة العتاب كما يقول الجاحظ سبب للقطيعة، واطراحه كله دليل على قلة الاكتراث بأمر الصديق، ويشبه الشاعر الصديق بالماء يصفو مرة ويكدر أخرى، وكذلك الإنسان تعتريه حالات من الجد والهزل، والمرح والترح، والرضى والغضب، والسعادة والبؤس، وينصح الشاعر مخاطبه أن يوطن نفسه على التعامل مع الصديق بصفاته المختلفة، كما هو الحال بالنسبة للماء، يشربه صافياً تارة، وكدراً تارةً أخرى، وإلا مات ظمأ، وينهي الشاعر المقطع الأول بالإشارة إلى أن الإنسان كذلك تختلف طباعه وأخلاقه، فمنها ما ينال الاستحسان والرضى، ومنها ما يقابل بالسخط والرفض، وليس في البشر أحد كامل الصفات، فإذا وجدت فيهم من تستطيع حصر عيوبه فذلك صدیق نبيل، فالزمه.
وفي المقطع الثاني يرشد الشاعر مخاطبه إلى الاستشارة إذا عرض له ما يدعو إلى ذلك، على أن يتوافر في المستشار العقل والدين والحكمة وسداد الرأي، وألا يجعل المستشير الشورى منقصة ومذلة وعيباً، فإن الرأي يزداد بالشورى حصافة ونضجاً، ويشبه الرأي الحصيف إذا ما استعان صاحبه بالشورى بجناح الطائر يزداد قوة على الطيران حين يتضافر ريش قوادمه وخوافيه، ويعزز الشاعر فكرته تلك باليد الواحدة تكون عاجزة عن أن تعمل دون أختها، وكذلك السيف يكون عاجزاً عن الضرب والقطع إذا لم يكن له يد تجعل منه سيفاً صارماً، ويختم الشاعر المقطع بحكمة بالغة تدعو إلى الحزم واليقظة في تدبير الأمور فإن الرأي السديد يتطلب حزما وعزيمة في اتخاذ القرار.
إذا عدنا إلى الأبيات وتأملنا مافيها من تراكيب وصور وأخيلة لوجدنا أن هذه العناصر هي التي أكسبت المعنى تأثيراً في النفس وقوة في الفكر وسعة في الدلالة، لنتأمل أساليب الإنشاء الطلبي من أمر ونهى واستفهام، وما تحمله من أغراض بلاغية ودلالات فكرية، فالأمر في قوله فعش واحداً أو صل أخاك ، أمر يراد به التخيير بين الانعزال والوحدة، أو التعايش والمرونة والصبر على الآخرين، وكذلك (استعن) وه خل أمران يراد بهما الإرشاد والنصح تدبر البيت -٢- من المقطع الأول والبيت -١- من المقطع الثاني، والنهي في قوله ولا تجعل الشورى نهى يراد منه الكف عن اعتبار الشورى منقصة وعيباً ولكن النهي هنا ليس ملزماً بل هو نهى إرشاد وكذلك النهي عن الغفلة والنوم وترك الحزم في البيت من المقطع الثاني، وفي البيت الثالث سلب الاستفهام معناه الحقيقي، وأضفي عليه غرض جديد وهو النفي في الشطرين ، وما خير كف - وما خير سيف، وهذا النفي إنما يراد به الإشارة إلى أهمية الأشياء الصغيرة في دعم الأشياء الكبيرة، فاليد الواحدة لا تصفق، والسيف سر قوته في يده أو في مقبضه، وفي البيت الثالث من المقطع الأول صورة أدبية جميلة تتكئ على الاستعارة حيث شبه تحمل الأذى بالشرب من الماء الكدر، عدم تحملها ظماً يتحقق منه الهلاك، ولذلك فالاستعارة تمثيلية، حيث شبه من لم يصبر على هفوات أخيه ويغفر له بعض زلاته لن يجد من لا يخطئ فمثله : إما أن يعيش منعزلاً عن الناس، وإما أن يصل إخوانه ويعفو عن بعض زلاتهم. وهي صورة بديعة من صور التعبير الشعري فقد اختزلت المصائب كلها في مصيبة يتفق عليها الجميع وهي الظما، وأي مصيبة أعظم منه ؟!
أسئلة وتدريبات الدرس
1- عرف بالشاعر؟
2- بشار بن برد شاعر مجيد باتفاق النقاد، فما مظاهر تلك الإجادة ؟
3- ما الألفاظ المرادفة للألفاظ الآتية ( القذى الشورى، غضاضة ؟
4- الدنيا لا تصفو لأحد من البشر، كيف صور الشاعر هذه الفكرة ؟
5- هات من النص استفهاماً يراد به النفي، وأمراً يراد به النصح والإرشاد .
6- ما البيت الذي يوافق قول الجاحظ : « فإن كثرة العتاب سبب للقطيعة ؟
7- قارن بين التشبيه في البيتين ، وانسب كلا منهما إلى قائله : كأن قلوب الطير رطباً ويابساً لدى وكرها العناب والحشف البالي، كأن مشار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
8- لم كتبت الهمزة في الكلمات ( ظمئت - المرء - نؤوما ) بهذه الصورة
9- وضح جمال الصورة في قول الشاعر : إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
10- بم يتميز أسلوب بشار بن برد؟